فصل: تفسير الآيات رقم (1- 6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذا أيضاً توقيف وتوبيخ على أنهم ساروا ونظروا، أي إن ذلك لم ينفعهم حين لم يعملوا بحسب العبرة وخوف العاقبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا يتوجه للكفرة أن يعارض منهم من لم يسر فيقول لم أسر لأن كافة من سار من الناس قد نقلت إلى من لم يسر فاستوت المعرفة وحصل اليقين للكل، وقامت الحجة، وهذا بين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأثاروا الأرض‏}‏ يري بالمباني والحرث الحروب، وسائر الحوادث التي أحدثوها هي كلها إثارة للأرض بعضها حقيقة بعضها تجوز لأن إثارة أهل الأرض والحيوان المتاع، إثارة للأرض، وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمد الهمزة قال ابن مجاهد‏:‏ ليس هذا بشيء، قال أبو الفتح‏:‏ وجهها أنه أشبع فتحة الهمزة فنشأت ألف ونحوه قول ابن هرمة‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

فأنت من الغوائل حين ترمى *** ومن ذم الرجال بمنتزاح

قال وهذا من ضرورة الشعر لا يجيء في القرآن وقرأ أبو حيوة «وآثروا الأرض» بالمد بغير ألف بعد الثاء من الأثرة، والضمير في ‏{‏عمروها‏}‏ الأول للماضين والثاني للحاضرين والمعاصرين، وباقي الآية بين يتضمن الوعد والتخويف من عدل الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «عاقبةُ» بالرفع على اسم ‏{‏كان‏}‏ والخبر يجوز أن يكون ‏{‏السوأى‏}‏ ويجوز أن يكون ‏{‏أن كذبوا‏}‏ وتكون ‏{‏السوأى‏}‏ على هذا مفعولاً ب ‏{‏أساءوا‏}‏ وإذا كان ‏{‏السوأى‏}‏ خبراً ف ‏{‏أن كذبوا‏}‏ مفعول من أجله ولا يصح تعلقه ب ‏{‏أساءوا‏}‏ لأن في ذلك فصلاً بين الصلة والموصول بخبر ‏{‏كان‏}‏، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «عاقبةَ» بالنصب على أنها خبر مقدم واسم ‏{‏كان‏}‏ أحد ما تقدم، و‏{‏السوأى‏}‏ مصدر كالرجعى والفتيا والشورى، ويجوز أن تكون صفة لمذوف تقديره الخلة السوأى أو الخلال السوأى قال أبو حاتم هذه قراءة العامة بالمد على الواو وفتح الهمزة وياء التأنيث فبعض القراء فخم وبعضهم أمال، وقرأ الحسن «السوّى» بشد الواو دون همز، وقرأ الأعمش وابن مسعود «السوء» بالتذكير، وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال «السوء والسوأى» اقرأ بما شئت، قال ابن عباس ‏{‏أساءوا‏}‏ هنا بمعى كفروا و‏{‏السوأى‏}‏ هي النار والتكذيب ‏{‏بآيات الله‏}‏، تعالى غير الاستهزاء بها فلذلك عدد عليهم الفعلين، ثم أخبر تعالى إخباراً مطلقاً لجميع العالم بالحشر والبعث من القبور، وقرأ طلحة وابن مسعود «يُبدِيء» بضم الياء وكسر الدال، وقرأ جمهور القراء «ترجعون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء، وقوله ‏{‏ويوم‏}‏ منصوب ب ‏{‏يبلس‏}‏، والإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير في ذلك الشر بعينه، فإبلاسهم هو في عذاب الله تعالى، وقرأ عامة القراء بكسر اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بفتحها، وأبلس الربع إذا بلي وكأنه يئس من العمارة ومنه قول العجاج‏:‏

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا *** قال نعم أعرفه وأبلسا

وقرأ عامة القراء «ولم يكن لهم» بالياء من تحت، وروي عن نافع «تكن» بالتاء من فوق، و«الشركاء» المشار إليهم هو الأصنام أي الذين كانوا يجعلونهم شركاء لله بزعمهم‏.‏

وقوله ‏{‏وكانوا‏}‏ معناه يكونون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام فعبر عنه بالماضي لتيقن الأمر وصحة وقوعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يتفرقون‏}‏ معناه في المنازل والأحكام والجزاء، قال قتادة‏:‏ فرقة والله لا اجتماع بعدها و‏{‏يحبرون‏}‏ معناه ينعمون، قاله مجاهد، والحبرة والحبور السرور والتنعم، وقال يحيى بن أبي كثير‏:‏ ‏{‏يحبرون‏}‏ معناه يسمعون الأغاني، وهذا نوع من الحبرة، وقال ابن عباس ‏{‏يحبرون‏}‏ يكرمون وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينظرون العبرة ومنه بيت أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فراق كقيص السن فالصبر انه *** لكل أناس عبرة وحبور

هذا على هذه الرواية، ويروى عثرة وحبور، وهي أكثر وذكر تعالى «الروضة» لأنها من أحسن ما يعلم من بقاع الأرض، وهي حيث اكتمل النبت الأخضر وجن وما كان منها في المرتفع من الأرض كان أحسن، ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وما روضة من رياض الحزن معشبة *** خضراء جاد عليها مسل هطل

ومنه قول كثير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فما روضة طيبة الثرى *** تمج النداء جثجاثها وعرارها

قال الأصمعي‏:‏ ولا يقال «روضة» حتى يكون فيها ماء يشرب منه، و‏{‏محضرون‏}‏ معناه مجموعون له لا يغيب أحد عنه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبحان الله‏}‏ خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول إذ هذه الفرق هكذا من النعمة والعذاب فجدوا أيها المؤمنون في طريق الفوز برحمة الله، وقال ابن عباس وقتادة وبعض الفقهاء‏:‏ في هذه الآية على أربع صلوات‏:‏ المغرب والصبح والعصر والظهر، قالوا والعشاء هي الآخرة في آية أخرى في ‏{‏زلفاً من الليل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ وفي ذكر أوقات العورة، وقال ابن عباس أيضاً وفرقة من الفقهاء‏:‏ في هذه الآية تنبيه على الصلوات الخمس لأن قوله تعالى ‏{‏حين تمسون‏}‏ يتضمن الصلاتين، وقوله ‏{‏وله الحمد في السماوات والأرض‏}‏ اعتراض بين الكلامين من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته، وقرأ عكرمة «حيناً تمسون وحيناً تصبحون» والمعنى حين تمسون فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏الحي‏}‏ و‏{‏الميت‏}‏ في هذه الآية يستعمل حقيقة ويستعمل مجازاً، فالحقيقة المني يخرج منه الإنسان والبيضة يخرج منها الطائر وهذه بعينها ميتة تخرج من حي وما جرى هذا المجرى، وبهذا المعنى فسر ابن عباس وابن مسعود وقال الحسن‏:‏ المعنى المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وروي هذ المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية عندما كلمته بالإسلام أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والمجاز إخراج النبات الأخضر من الأرض وإخراج الطعم من النبات وما جرى هذا المجرى، ومثل بعد إحياء الأرض بالمطر بعد موتها بالدثور والعطش، ثم بعد هذا الأمثلة القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلاً ساق الخبر بأن كذلك خروجنا من القبور‏.‏ وقرأت فرقة فرقة «يخرجون» بالياء من تحت، وقرأ عامة القرأ «تُخرجون» بالتاء المضمومة، وقرأ الحسن وابن وثاب والأعمش وطلحة بفتح التاء وضم الراء، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏ومن آياته أن خلقكم‏}‏ للتبعيض، وقال ‏{‏خلقكم‏}‏ من حيث خلق أباهم آدم قاله قتادة، و‏{‏تنتشرون‏}‏ معناه تتصرفون وتتفرقون في الأغراض والأسفار ونحوها، وقوله ‏{‏من أنفسكم‏}‏ يحتمل أن يريد خلقه حواء من ضلع آدم فحمل ذلك على جميع النساء من حيث أمهم مخلوقة من نفس آدم، أي من ذات شخصه، ويحتمل أن يريد من نوعكم ومن جنسكم، و«المودة والرحمة» على بابها المشهور من التواد والتراحم، هذا هو البليغ، وقال مجاهد والحسن وعكرمة‏:‏ عنى ب «المودة» الجماع وب «الرحمة» الولد، ثم نبه تعالى على خلق السماوات والأرض واختلاف اللغات والألوان وهذه عظم مواقع العبرة من هذه الآيات، وقوله ‏{‏وألوانكم‏}‏ يحتمل أن يريد البياض والسواد وغيرهما، ويحتمل أن يريد ضروب بني آدم وأنواعهم نعم وأشخاص الأخوة ونحوهم تختلف بالألوان ونعم الألسنة وبذلك تصح الشهادات والمداينات وتقع الفروق والتعيين فهكذا تبين النعمة، وقرأ جمهور القراء «لَلعالمين» بفتح اللام، وقرأ حفص عن عصام «لِلعالمين» بكسر اللام فالأولى على أن هذه الآية هي نفسها منصوبة لجميع العالم والثانية على معنى أن أهل الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ذكر تعالى النوم ‏{‏بالليل والنهار‏}‏ وعرف النوم إنما هو بالليل وحده، ثم ذكر الابتغاء ‏{‏من فضله‏}‏ كأنه فيهما وإنما معنى ذلك أنه عم بالليل والنهار فسمى الزمان وقصد من ذلك تعديد آية النوم وتعديد آية ابتغاء الفضل فإنهما آيتان تكونان في ليل ونهار، والعرف يجيز كل واحدة من النعمتين أي محلها من الأغلب وقال بعض المفسرين في الكلام تقديم وتأخير‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا ضعيف وإنما أراد أن يرتب النوم لليل والابتغاء للنهار ولفظ الآية لا يعطي ما أراد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريكم‏}‏ فعل مرتفع لما حذفت «أن» التي لو كانت لنصبته فلما حل الفعل محل الاسم أعرب برفع‏.‏

ومنه قول طرفة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى *** وأن أشهد للذات هي أنت مخلدي

قال الرماني‏:‏ وتحتمل الآية أن يكون التقدير ‏{‏ومن آياته‏}‏ آية ‏{‏يريكم البرق‏}‏ وحذفت الآية لدلالة من عليها ومنه قول الشاعر‏:‏

وما الدهر إلا تارتان فمنهما *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

التقدير فمنها تارة أموت‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا على أن ‏{‏من‏}‏ للتبعيض كسائر هذه الآيات، ويحتمل في هذه وحدها أن تكون ‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية فلا يحتاج إلى تقدير «أن» ولا إلى تقدير «آية»، وإنما يكون الفعل مخلصاً للاستقبال وقوله ‏{‏خوفاً وطمعاً‏}‏، قال قتادة ‏{‏خوفاً‏}‏ للمسافر ‏{‏وطمعاً‏}‏ للمقيم‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ولا وجه لهذا التخصيص ونحوه بل فيه الخوف والطمع لكل بشر، قال الضحاك‏:‏ الخوف من صواعقه والطمع في مطره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقوم السماء والأرض‏}‏ معناه تثبت، كقوله تعالى ‏{‏وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ وهذا كثير، وقيل هو فعل مستقبل أحله محل الماضي ليعطي فيه معنى الدوام الذي هو في المستقبل، والدعوة من الأرض هي البعث و‏{‏من الأرض‏}‏ حال للمخاطبين كأنه قال‏:‏ خارجين من الأرض، ويجوز أن يكون ‏{‏من الأرض‏}‏ صفة للدعوة‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ و‏{‏من‏}‏، عندي ها هنا لانتهاء الغاية كما تقول دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل، والوقف في هذه الآية عند نافع ويعقوب الحضرمي على ‏{‏دعوة‏}‏، والمعنى بعد إذا أنتم تخرجون من الأرض، وهذا على أن ‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية، والوقف عند أبي حاتم على قوله ‏{‏من الأرض‏}‏، وهذا على أن ‏{‏من‏}‏ لانتهاء الغاية، قال مكي‏:‏ والأحسن عند أهل النظر أو الوقف في آخر الآية لأن مذهب الخليل وسيبويه في ‏{‏إذا‏}‏ الثانية أنها جواب الأولى كأنه قال‏:‏ ثم إذا دعاكم خرجتم وهذا أسدّ الأقوال‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي «تَخرجون» بفتح التاء، وقرأ الباقون «تُخرجون» بضم التاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

اللام في ‏{‏له‏}‏ الأولى لام الملك، وفي الثانية لام تعدية ل «قنت» إذ «قنت» بمعنى خضع في طاعته وانقياده، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في القنت والعموم في كل من يعقل، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر، ونحن نجد كثيراً من الجن والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال، فلا بد أن عموم ظاهر هذه الآية معناه الخصوص، واختلف المتألون في هذا الخصوص أي هو، فقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هو في القنت والطاعة وذلك أن جميع من يعقل هو قانت لله في معظم الأمور من الحياة والموت والرزق والقدرة ونحو ذلك، وبعضهم يبخل بالعبادة وبالمعتقدات فلا يقنت فيها فكأنه قال كل له قانتون في معظم الأمور وفي غالب الشأن، وقال ابن زيد ما معناه‏:‏ إن الخصوص هو في الأعيان المذكورين كأنه قال ‏{‏وله من في السماوات والأرض‏}‏ من ملك ومؤمن، وقوله ‏{‏يبدأ الخلق‏}‏ معناه ينشئه ويخرجه من العدم، وجاء الفعل بصيغة الحال لما كان في هذا المعنى ما قد مضى كآدم وسائر القرون وفيه ما يأتي في المستقبل، فكانت صيغة الحال تعطي هذا كله، و‏{‏يعيده‏}‏ معناه يبعثه من القبور وينشئه تارة أخرى، واختلف المتأولون في قوله ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏، فقال ابن عباس والربيع بن خيثم‏:‏ المعنى وهو هين ونظيره قول الشاعر‏:‏ ‏(‏لعمرك ما أدري وأني لأوجل‏)‏ بمعنى لوجل، وقول الآخر ‏(‏بيت دعائمه أعز وأطول‏)‏، وقولهم في الأذان الله أكبر وقال الآخر وهو الشافعي‏:‏

فتلك سبيل لست فيها بأوحد *** واستشهد بهذا البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه»، وفي بعض المصاحف و«كل هين عليه»، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة‏:‏ المعنى وهو أيسر عليه، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة، ولكن هذا التفضيل بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة، وهذان القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى، وقالت فرقة أخرى‏:‏ الضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على الخلق‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ فهذا بمعنى المخلوق فقط، وعلى التأويلين يصح أن يكون المخلوق أو يكون مصدراً من خلق، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو هذا، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد، فكأنه قال وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً، وقال بعضها‏:‏ المعنى «وهو أهون» على المخلوق أن يعيد شيئاً بعد إنشائه، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى ‏{‏وله المثل الأعلى‏}‏ لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء و«العزة والحكمة»، صفتان موافقتان لمعنى الآية، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء، ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم عندكم بجوانبكم، هذا تفسير ابن عباس والجماعة‏.‏

وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير، وقرأ الناس «كخيفتكم أنفسَكم» بنصب السين، وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسُكم» بضمها، وقرأ الجمهور «نفصل» بالنون حملاً على ‏{‏رزقناكم‏}‏، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصل» بالياء حملاً على ‏{‏ضرب لكم مثلاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

الإضراب ب ‏{‏بل‏}‏ هو عما تضمنه معنى الآية المتقدمة، كأنه يقول‏:‏ ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى، بل اتبعوا أهواءهم جهالة وشهوة وقصداً لأمر دنياهم، ثم قرر على جهة التوبيخ لهم على من يهدي إذا أضل الله، أي لا هادي لأهل هذه الحال، ثم أخبر أنه لا ناصر لهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه، و‏{‏حنيفاً‏}‏، معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة، وقوله ‏{‏فطرةَ الله‏}‏ نصب على المصدر، كقوله ‏{‏صبغة الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 138‏]‏ وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم ‏{‏فطرة الله‏}‏، واختلف الناس في «الفطرة» ها هنا، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن ان تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه قال ‏{‏فأقم وجهك للدين‏}‏ الذي هو الحنيف وهو ‏{‏فطرة الله‏}‏ الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث، فذكر الأبوين‏:‏ إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ يحتمل تأويلين‏:‏ أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه، والآخران أن يكون قوله ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون، وقال مجاهد‏:‏ المعنى لا تبديل لدين الله، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها عكرمة، وقد روي عن ابن عباس ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان، ومنها قول بعضهم في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله ‏{‏فطر الناس‏}‏ على الخصوص أي المؤمنين، وقيل «الفطرة» هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره، ونحوه حديث معاذ بن جبل حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة‏؟‏ قال‏:‏ الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي العصمة فقال عمر‏:‏ صدقت، و‏{‏القيم‏}‏ بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، وقوله ‏{‏منيبين‏}‏ يحتمل أن يكون حالاً من قوله ‏{‏فطر الناس عليها‏}‏ لا سيما على رأي من رأى أن ذلك خصوص في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالاً من قوله ‏{‏أقم وجهك‏}‏ وجمعه لأن الخطاب بإقامة الوجه للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، نظيرها قوله

‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، والمنيب الراجع المخلص المائل إلى جهة ما بوده ونفسه، و«المشركون» المشار إليهم في هذه الآية هم اليهود والنصارى، قاله قتادة وقال ابن زيد‏:‏ هم اليهود، وقالت عائشة وأبو هريرة‏:‏ هي في أهل القبلة‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ فلفظة الإشراك على هذا فيها تجوز فإنهم صاروا في دينهم فرقاً، و«الشيع» الفرق واحدها «شيعة»، وقوله ‏{‏كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ معناه أنهم مفتونون بآرائهم معجبون بضلالهم، وذلك أضل لهم، وقرأت فرقة «فارقوا دينهم» بالألف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

هذا ابتداء إنحاء على عبدة الأصنام المشركين بالله عز وجل غيره بين الله تعالى لهم أنهم كسائر البشر في أنهم إذا مسهم ‏{‏ضر دعوا الله‏}‏ وتركوا الأصنام مطرحة ولهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع، ف ‏{‏إذا أذاقهم‏}‏ رحمته أي باشرهم أمره بها، والذوق مستعار، إذا طائفة تشرك به أصناماً ونحو هذا، و‏{‏إذا‏}‏ للمفاجأة فلذلك صلحت في جواب ‏{‏إذا‏}‏ الأولى بمنزلة الفاء وهذه الطائفة هي عبدة الأصنام‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ويحلق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين إذا جاءهم فرج بعد شدة فعلقوا ذلك بمخلوقين أو بحذق آرائهم وغير ذلك لأن فيه قلة شكر لله تعالى، ويسمى تشريكاً مجازاً، وقوله تعالى ‏{‏ليكفروا‏}‏ اللام لام كي، وقالت فرقة هي لام الأمر على جهة الوعيد والتهديد، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتمتعوا‏}‏ فأمر على جهة الوعيد، والتقدير قل لهم يا محمد ‏{‏فتمتعوا‏}‏ وقرأ أبو العالية «فيتمتعوا» بياء قبل التاء وذلك عطف على ‏{‏ليكفروا‏}‏ أي لتطول أعمارهم على الكفر، وفي حرف ابن مسعود «فليتمتعوا»، وروي عن أبي العالية «فيُمتعوا» بضم الياء دون تاء أولى، وفي مصحف ابن مسعود «تمتعوا» هكذا قال هارون، وقرأ عامة الناس «تعلمون» بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو العالية «يعلمون» بالياء على ذكر الغائب‏.‏

وقوله ‏{‏أم‏}‏ بمعنى بل وألف الاستفهام كأن أضرب عن صدر الكلام ورجع إلى هذه الحجة، و«السلطان» هنا البرهان من رسول أو كتاب ونحوه، والسلطان في كلام العرب جمع سليط كرغيف ورغفان وغدير وغدران فهو مأخوذ من التسلط والتغلب، ولزم هذا الاسم في العرف الرئيس لأنه سليط بوجه الحق ولزمه اسم جمع من حيث أنواع الغلبة والملك عنده، وقال قوم‏:‏ هو اسم مفرد وزنه فعلان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهو يتكلم‏}‏ معناه أن يظهر حجتهم وينطق بشركهم قاله قتادة، فيقوم ذلك مقام الكلام، كما قال تعالى ‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حالة الناس متى تأتيهم شدة وضر ونجوا منه إلى سعة ذكر في هذه الآية الأمر أيضاً من الطرف الآخر بأن تنال الرحمة ثم تعقب الشدة فلهم في الرتبة الأولى تضرع ثم إشراك وقلة شكر، ولهم في هذه فرج وبطر ثم قنط ويأس، وكل أحد يأخذ من هذه الخلق بقسط، والمقل والمكثر إلا من ربطت الشريعة جأشه ونهجت السنة سبيله وتأدب بأدب الله تعالى، فصبر عند الضراء، وشكر عند السراء، ولم يبطر عند النعمة، ولا قنط عند الابتلاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏ أي إن الله يمتحن الأمم ويصيب منهم عند فشو المعاصي وظهور المناكر، وكذلك قد يصاب شخص بسوء أعماله يسيء وحده ويصاب وحده، وفي الأغلب يعفو الله عن كثير، و«القنط» اليأس الصريح، وقرأ أبو عمرو وجماعة «يقنِطون» بكسر النون، وقرأ نافع والحسن وجماعة «يقنَطون» بفتحها، وجواب الشرط في قوله ‏{‏إن تصبهم‏}‏ قوله ‏{‏إذا هم يقنطون‏}‏ وذلك أنها للمفاجأة لا يبتدأ بها، فهي بمنزلة الفاء لا يبتدأ بها ويجاب بها الشرط، وأما «إذا» التي للشرط أو التي فيها معنى الشرط فهما يبدأ بهما ولا يكون فيهما جواب الشرط، ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله على حال وهو أن الله تعالى يحض من يشاء من عباده ببسط الرزق ويقدر على من شاء منهم فينبغي لكل عبد أن يكون راجياً ما عند ربه، ثم أمر تعالى نبيه أمراً تدخل الأمة فيه وهذا على جهة الندب إلى إيتاء ذي القربى حقه من صلة المال وحسن المعاشرة ولين القول، قال الحسن‏:‏ ‏{‏حقه‏}‏ المواساة في اليسر وقول ميسور في العسر‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «في المال حق سوى الزكاة وذلك للمسكين وابن السبيل حق» وبين أن حق هذين إنما هو في المال وغير ذلك معهما لا غناء له وكذلك يلزم القريب المعدم الذي يقضي حقه أن يقضي أيضاً حق قريبه في جودة العشرة و‏{‏وجه الله‏}‏ هنا جهة عبادته ورضاه و‏{‏المفلحون‏}‏ الفائزون ببغيتهم البالغون لآمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قرأ جمهور القراء «وما آتيتم» بمعنى وما أعطيتم، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صواباً وأتيت خطأ، وأجمعوا على المد في قوله ‏{‏وما آتيتم من زكاة‏}‏‏.‏ و«الربا» الزيادة، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس‏:‏ هذه آية نزلت في هبات الثواب‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وقال ابن عباس أيضاً وإبراهيم النخعي‏:‏ نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع، وقال الشعبي‏:‏ معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحداً وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة ‏{‏لا يربو عند الله‏}‏‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات ما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالاً وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك ‏{‏لا يربو عند الله‏}‏ ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيراً يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافاً مضاعفة على ما شاء الله تعالى له، وقال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية في ربا ثقيف لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش، وقرأ جمهور القراء السبعة «ليربوا» بالياء وإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ نافع وحده «لتُربوا» بضم التاء على وزن تفعلوا بمعنى تكونوا ذوي زيادة، وهذه قراءة ابن عباس وأهل المدينة الحسن وقتادة وأبي رجاء والشعبي، قال أبو حاتم هي قراءتنا، وقرأ أبو أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث، و«المضعف» الذي هو ذو أضعاف من الثواب كما المؤلف الذي له آلاف، وكما تقول أخصب إذا كان ذا خصب‏.‏ وهذا كثير، ومنه أربى المتقدم في قراءة من قرأ «لتُربوا» بضم التاء، ثم كرر مخاطبة الكفرة في أمر أوثانهم فذكر أفعال الله تعالى التي لا شريك له فيها وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ولا يمكن أن ينكر ذلك عاقل، ووقف الكفار على جهة التقرير والتوبيخ هل من شركائهم أي الذين جعلوهم شركاء من يفعل شيئاً من ذلك، وهذا الترتيب ب ‏{‏ثم‏}‏ هو في الآحاد شيئاً بعد شيء، ومن هنا أدخل الفقهاء الولد مع أبيه في تعقب الأحباس إذا كان اللفظ على أعقابهم ثم على أعقاب أعقابهم، ثم نزه تعالى نفسه عن مقالتهم في الإشراك، وقرأ الجمهور «يشركون» بالياء من تحت، وقرأ الأعمش وابن وثاب بالتاء من فوق، ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر‏}‏، واختلف الناس في معنى ‏{‏البر والبحر‏}‏ في هذه الآية، فقال مجاهد ‏{‏البر‏}‏ البلاد البعيدة من البحر، و‏{‏البحر‏}‏ السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار، وقال قتادة ‏{‏البر‏}‏ الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري، و‏{‏البحر‏}‏ المدن جمع بحرة‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور»، ورويت عن ابن عباس، وقال مجاهد أيضاً‏:‏ ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه، وفي البحر أخذ السفن غضباً، وقال بعض العباد ‏{‏البر‏}‏ اللسان و‏{‏البحر‏}‏ القلب، وقال الحسن بن أبي الحسن ‏{‏البر والبحر‏}‏ هما المعروفان المشهوران في اللغة‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، قال ابن عباس‏:‏ الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الظلم عم الأرض براً وبحراً، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما كسبت‏}‏ تقديره جزاء ما كسبت، ويحتمل أن تتعلق الباء ب ‏{‏ظهر‏}‏ أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر، والترجي في «لعل» هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم» بالياء، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم» بالنون ومعناهما بين، وقرأ أيضاً أبو عبد الرحمن «لتذيقهم» بالتاء من فوق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

هذا تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار فيمن سلف من الأمم وفي سوء عواقبهم بكفرهم وإشراكهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه، والمعنى اجعل قصدك ومسعاك للدين أي لطريقه ولأعماله واعتقاداته، و‏{‏القيم‏}‏ أصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت الياء وهي ساكنة فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى في الثانية، ثم حذره تعالى من يوم القيامة تحذيراً يعم العالم وإياهم القصد، و‏{‏لا مرد له‏}‏ معناه ليس فيه رجوع لعمل ولا لرغبة ولا عنه مدخل، ويحتمل أن يريد لا يرده راد حتى لا يقع وهذا ظاهر بحسب اللفظ، و‏{‏يصدعون‏}‏ معناه يتفرقون بعد جمعهم، وهذا هو التصدع والمعنى يتفرقون إلى الجنة وإلى النار، ثم قسم الفريقين بأحكام تلحقهم من أعمال في الدنيا ثم عبر عن «الكفر» ب «عليه» وهي تعطي الثقل والمشقة وعن العمل الصالح باللام التي هي كلام الملك، و‏{‏يمهدون‏}‏ معناه يوطئون ويهيئون وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها إلى الأحوال والمراتب، وقال مجاهد‏:‏ هذا التمهيد هو للقبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

اللام في قوله ‏{‏ليجزي‏}‏ متعلقة ب ‏{‏يصدعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 43‏]‏، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك أو فعل ذلك ‏{‏ليجزي‏}‏ وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى ‏{‏من كفر‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 43‏]‏، وقوله تعالى، ‏{‏لا يحب الكافرين‏}‏ ليس الحب بمعنى الإرادة ولكنه بمعنى لا يظهر عليهم أمارات رحمته ولا يرضاه لهم ديناً ونحو هذا، ثم ذكر تعالى من آياته أشياء يقضي كل عقل بأنها لا مشاركة للأوثان فيها وهو ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر، ويذيق الله بها المطر ويلقح بها الشجر وغير ذلك ويجري بها السفن في البحر ويبتغي الناس بها فضل الله في التجارات في البحر وفي ذرو الأطعمة وغير ذلك، ثم أنس محمداً بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، وتوعد قريشاً بأن ضرب لهم مثل من هلك من الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء، ثم وعد محمداً وأمته النصر إذ أخبر أنه جعله ‏{‏حقاً‏}‏ عليه تبارك وتعالى، و‏{‏حقاً‏}‏ خبر ‏{‏كان‏}‏ قدمه اهتماماً لأنه موضع فائدة الجملة، وبعض القراء في هذه الآية وقف على قوله ‏{‏حقاً‏}‏ وجعله من الكلام المتقدم ثم استأنف جملة من قوله ‏{‏علينا نصر المؤمنين‏}‏، وهذا قول ضعيف لأنه لم يدر قدماً عرضه في نظم الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

«الإثارة» تحريكها من سكونها وتسييرها، وبسطه ‏{‏في السماء‏}‏ هو نشره في الآفاق، و«الكسف» القطع، وقرأ جمهور القراء «كسفاً» بفتح السين، وقرأ ابن عباس «كسفاً» بسكون السين وهي قراءة الحسن وأبي جعفر والأعرج وهما بناءان للجمع كما يقال وسدْر بسكون الدال بفتح الدال وسدَر بفتح الدال، وقال مكي‏:‏ من أسكن السين فمعناه يجعل السحاب قطعة واحدة، و‏{‏الودق‏}‏ الماء يمطر ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها

و ‏{‏خلاله‏}‏ الفطور الذي بين بعضه وبعض لأنه متخلخل الأجزاء، وقرأ الجمهور «من خِلاله» بكسر الخاء وألف بعد اللام جمع خلل كجبل وجبال، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك والحسن بخلاف عنه «من خلله» وهم اسم جنس، والضمير في ‏{‏خلاله‏}‏ يحتمل أن يعود على السحاب ويحتمل أن يعود على الكسف في قراءة من قرأ بسكون السين، وذكر الضمير مراعاة اللفظ لا لمعنى الجمع، كما تقول هذا تمر جيد ومن الشجر الأخضر من ناراً، ومن قرأ «كسَفاً» بفتح السين فلا يعيد الضمير إلا على السحاب فقط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبله‏}‏ تأكيد أفاد سرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار وذلك أن قوله ‏{‏من قبل أن ينزل عليهم‏}‏ يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل بكثير كالأيام ونحوه فجاء قوله ‏{‏من قبله‏}‏ بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيد، وقرأ يعقوب وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه «ينزل» مخففة، وقرأت عامة القراء بالتثقيل في الزاي، وقرأ ابن مسعود عليهم «لمبلسين» بسقوط ‏{‏من قبله‏}‏ والإبلاس الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها، ثم عجبه يراد بها جميع الناس من أجل رحمة الله وهي المطر، وقرأ أبن كثير ونافع وأبو عمرو «أثر» بالإفراد، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «آثار» بالجمع، واختلف عن عاصم، وقرأ سالم «إلى إثْر» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وقوله ‏{‏كيف يحيي‏}‏ يحتمل أن يكون الضمير الذي في الفعل للأثر، ويحتمل أن يكون لله تعالى وهو أظهر، وقرأت فرقة «كيف تحيى» بالتاء المفتوحة «الأرضُ» بالرفع، وقرأ الجحدري وابن السميفع وأبو حيوة «تُحيي» بتاء مضمومة على أن إسناد الفعل إلى ضمير الرحمة «الأرض» نصباً، قال أبو الفتح‏:‏ قوله «كيف تحيى» جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى كأنه قال محيية، وهذه الحياة والموت استعارة في القحط والإعشاب، ثم أخبر تعالى على جهة القياس والتنبيه عليه بالبعث والنشور، وقوله ‏{‏على كل شيء‏}‏ عموم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ثم أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم في أنه بعيد الاستبشار بالمطر أن بعث الله ريحاً فاصفر بها النبات ظلوا يكفرون قلقاً منهم وقلة توكل وتسليم لله تعالى، والضمير في ‏{‏رأوه‏}‏ للنبات كما قلنا أو للأثر وهو حوة النبات الذي أحييت به الأرض وقال قوم هو للسحاب، وقال قوم هو للريح، وهذا كله ضعيف، واللام في ‏{‏لئن‏}‏ مؤذنة بمجيء القسم، وفي ‏{‏لظلوا‏}‏ لام القسم، وقوله «ظلوا» فعل ماض نزله منزلة المستقبل واستنابه منابه لأن الجزاء هنا لا يكون إلا بفعل مستقبل لكن يستعمل الماضي بدل المستقبل في بعض المواضع توثيقاً لوقوعه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنك لا تسمع الموتى‏}‏ الآية استعارة للكافر وقد تقدم القول على مثل هذه الآية في سورة النمل، وكلهم قرأ «ولا تُسمع» بتاء مضمومة ونصب «الصمَّ»، وقرأ ابن كثير وعباس عن أبي عمرو «يَسمع» بياء مفتوحةً الصمُّ رفعاً، وقرأ الجمهور «بهادي العمي» بالإضافة، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهادٍ» بالتنوين «العميَ» نصباً، وقوله ‏{‏إن تسمع إلا من يؤمن‏}‏ معناه إن تسمع إسماعاً ينفع ويجدي، وأما سماع الكفرة فغير مجد فاستويا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن ضلالتهم‏}‏ لما كانت الهداية تتضمن الصرف عديت ب ‏{‏عن‏}‏ كما تتعدى صرفت ومعنى الآية ليس في قدرتك يا محمد ولا عليك أن تهدي، وقرأ ابن أبي عبلة «من ضلالتهم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

وهذه أيضاً عبر بين فيها أن الأوثان لا مدخل لها فيها‏.‏

وقرأ جمهور القراء والناس بضم الضاد في «ضُعف»، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء، والضم أصوب، وروي عن ابن عمر أنه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح فردها عليه بالضم، وقال كثير من اللغويين‏:‏ ضم الضاد في البدن وفتحها في العقل، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك أنهم ضموا الضاد في الأول والثاني وفتحو «ضَعفاً»، وقرأ عيسى بن عمر «من ضُعُف» بضمتين، وهذه الآية إنما يراد بها حال الإنسان، و«الضعف» الأول هو كون الإنسان من ماء مهين، و«القوة» بعد ذلك الشبيبة، وقوة الأسر، و«الضعف» الثاني الهرم والشيخ هذا قول قتادة وغيره ثم أخبر تعالى عن يوم القيامة أن المجرمين يقسمون لجاجاً منهم وتسوراً على ما لا علم لهم به أنهم ما لبثوا تحت التراب غير ساعة وهذا إتباع لتحيلهم الفاسد ونظرهم في ذلك الوقت على نحو ما كانوا في الدنيا يتبعون ذلك، و‏{‏يؤفكون‏}‏ عن الحق أي يصرفون وقيل المعنى ما لبثوا الدنيا كأنهم استقلوهم لما عاينوا من أمر الآخرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يضعفه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ إذ لو أراد تقليل الدنيا بالإضافة إلى الآخرة لكان منزعاً سديداً وكان قولهم ‏{‏ساعة‏}‏ تجوزاً في القدر والموازنة، ثم أخبر تعالى عن ‏{‏الذين أوتوا العلم والإيمان‏}‏ أنهم يقفون في تلك الحال على حق ويعرفون أنه الوعد المتقرر في الدنيا، وقال بعض المفسرين‏:‏ إنما أراد الإيمان والعلم ففي الكلام تقديم وتأخير‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ولا يحتاج إلى هذا بل ذكر العلم يتضمن الإيمان ولا يصف الله بعلم من لم يعلم كل ما يوجب الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيهاً عليه وتشريفاً لأمره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاكهة ونخل ورمان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ فنبه على مكان الإيمان وخصه بالذكر تشريفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضى، و‏{‏يستعتبون‏}‏ بمعنى يعتبون كما تقال يملك ويستملك، والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى كان يفسد إذا كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى‏.‏

وقرأ عاصم والأعمش «ينفع» بالياء كما قال تعالى ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وحسن هذا أيضاً بالتفرقة التي بين الفعل وما أسند إليه قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى *** ثلاث الأثافي والديار البلاقع

ثم أخبر تعالى عن قسوة قلوبهم وعجرفة طباعهم في أنه ضرب لهم كل مثل وبين عليهم بيان الحق ثم هم مع ذلك الآية والمعجزة يكفرون ويلجون ويعمهون في كفرهم، ويصفون أهل الحق بالإبطال، ثم أخبر تعالى أن هذا إنما هو من طبعه وختمه على قلوب الجهلة الذين قد حتم عليهم الكفر في الأزل، وذهب أبو عبيدة إلى أنه من قولهم طبع السيف أي صدئ أشد صدأ، ثم أمر نبيه بالصبر وقوى نفسه لتحقيق الوعد ونهاه عن الاهتزاز لكلامهم والتحرك واضطراب النفس لأقوالهم إذ هم لا يقين لهم ولا بصيرة، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «يستحقنك» بحاء غير معجمة وقاف من الاستحقاق، والجمهور على الخاء المعجمة والفاء من الاستخفاف، إلا أن ابن أبي إسحاق ويعقوب سكنا النون من «يستخفنك»، وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان في صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج بأعلى صوته فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏، فعلم علي رضي الله عنه مقصده في هذا وتعريضه به فأجابه وهو في الصلاة بهذه الآية‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون‏}‏‏.‏

سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور وفي ترتيب ‏{‏تلك‏}‏ مع كل قول منها، و‏{‏الحكيم‏}‏ يصح أن يكون من الحكمة ويصح أن يكون من الحكم، وقرأ جمهور القراء «هدى ورحمةً» بالنصب على الحال من المبهم، ولا يصح أن تكون من ‏{‏الكتاب‏}‏ لأنه مضاف إليه، وقرأ حمزة والكسائي «هدى ورحمةٌ» بالرفع على تقدير هو هدى، وخصصه ‏{‏للمحسنين‏}‏ من حيث لهم نفعه وهم نظروه بعين الحقيقة وإلا فهو هدى في نفسه، وفي قراءة ابن مسعود «هدى وبشرى للمؤمنين»، ثم وصف تعالى المحسنين بأنهم الذين عندهم اليقين بالبعث وبكل ما جاء به الرسول، وعندهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومن صفتهم ما قال رسول ا لله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان قال‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الحديث‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏}‏ روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد، وقال الحسن ‏{‏لهو الحديث‏}‏ المعازف والغناء، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب رستم واسبندياد وكان يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثاً من محمد، وقال قتادة‏:‏ الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ فكأن ترك ما يجب وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16، 175‏]‏، وقد قال مطرف‏:‏ شراء ‏{‏لهو الحديث‏}‏ استحبابه، قال قتادة ولعله لا ينفق فيه مالاً ولكن سماعه هو شراؤه، وقال الضحاك ‏{‏لهو الحديث‏}‏ الشرك، وقال مجاهد أيضاً ‏{‏لِهو الحديث‏}‏ الطبل وهذا ضرب من الغناء‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً‏}‏، والتوعد بالعذاب المهين، وأما لفظة الشراء فمحتملة للحقيقة والمجاز على ما بينا، و‏{‏لهو الحديث‏}‏ كل ما يلهي من غناء وخنى ونحوه، والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزواً ولا عليهم هذا الوعيد، بل ليعطل عبادة ويقطع زماناً بمكروه، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة تروم تتميم ذلك النقص بالأحاديث وقد جعلوا الحديث من القربى، وقيل لبعضهم أتمل الحديث‏؟‏ قال‏:‏ إنما يمل العتيق‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ يريد القديم المعاد، لأن الحديث من الأحاديث فيه الطرافة التي تمنع من الملل، وقرأ نافع وعاصم والحسن وجماعة «ليُضل» بضم الياء‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها، وفي حرف أبيّ «ليضل الناس عن سبيل الله»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «ويتخذَها» بالنصب عطفاً على ‏{‏ليضل‏}‏، وقرأ الباقون «ويتخذُها» بالرفع عطفاً على ‏{‏يشتري‏}‏، والضمير في ‏{‏يتخذها‏}‏ يحتمل أن يعود على ‏{‏الكتاب‏}‏ المذكور أولاً ويحتمل أن يعود على السبيل، ويحتمل أن يعود على الأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث، وكذلك ‏{‏سبيل الله‏}‏ اسم جنس ولكن وجه من الحديث وجه يليق به من السبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذا دليل على كفر الذي نزلت فيه هذه الآية التي قبلها، و«الوقر» في الأذن الثقل الذي يعسر إدراك المسموعات، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث قيدت ونص عليها، ولما ذكر عز وجل حال هؤلاء الكفرة وتوعدهم بالنار على أفعالهم، عقب بذكر المؤمنين وما وعدهم به من ‏{‏جنات النعيم‏}‏ ليبين الفرق، و‏{‏وعدَ الله‏}‏ منصوب على المصدر، و‏{‏حقاً‏}‏ مصدر مؤكد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير عمد ترونها‏}‏ يحتمل أن يعود الضمير على ‏{‏السماوات‏}‏ فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك، وهذا قول الحسن والناس، و‏{‏ترونها‏}‏ على هذا القول في موضع نصب على الحال، ويحتمل أن يعود الضمير على «العمد» فيكون ‏{‏ترونها‏}‏ صفة للعمد في موضع خفض، ويكون المعنى أن السماء لها عمد لكن غير مرئية قاله مجاهد ونحا إليه ابن عباس، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه، ويجوز أن تكون ‏{‏ترونها‏}‏ في موضع رفع على القطع ولا عمد ثم، و«الرواسي» هي الجبال التي رست أي ثبتت في الأرض، وقوله‏:‏ ‏{‏أن تميد‏}‏ بمعنى لئلا تميد، والميد التحرك يمنة ويسرة وما قرب من ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كل زوج‏}‏ أي من كل نوع، و«الزوج» في النوع والصنف وليس بالذي هو ضد الفرد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كريم‏}‏ يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنبتنا‏}‏ يعم جميع أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن، ثم وقف تعالى الكفار على جهة التوبيخ وإظهار الحجة على أن هذه الأشياء هي مخلوقات الله تعالى، ثم سألهم أن يوجدوه ما خلق الأوثان والأصنام وغيرهم ممن عبد، أي أنهم لن يخلقوا شيئاً، بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين، فذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم، وقوله‏:‏ ‏{‏ماذا‏}‏ يجوز أن تكون «ما» استفهاماً في موضع رفع بالابتداء و«ذا» خبرها بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن تكون «ما» مفعولة ب «أروني» و«ذا» و«ما» بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره في الوجهين خلقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لقمان‏}‏ رجل حكيم بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل، واختلف هل هو نبي مع ذلك أو رجل صالح فقط، فقال بنبوءته عكرمة والشعبي، وقال بصلاحه فقط مجاهد وغيره، وقال ابن عباس‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وإن عزمت علي فسمعاً وطاعة فإنك ستعصمني وكان قاضياً في بني إسرائيل نوبياً أسود مشقق الرجلين ذا مشافر»، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وابن عباس، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ صدق الحديث والصمت عما لا يعني، وقال ابن المسيب‏:‏ كان سودان مصر من النوبة، وقال خالد بن الربيع‏:‏ كان نجاراً، وقيل كان خياطاً، وقيل كان راعياً، وحكم لقمان كثيرة مأثورة، قيل له وأي الناس شر‏؟‏ قال الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اشكر‏}‏ يجوز أن تكون ‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي «بأن اشكر لله»، ويجوز أن تكون مفسرة أي كانت حكمته دائرة على الشكر لله ومعانيه وجميع العبادات والمعتقدات داخلة في شكر الله تعالى، ثم أخبر تعالى أن الشاكر حظه عائد عليه وهو المنتفع بذلك‏.‏ و‏{‏الله‏}‏ تعالى ‏{‏غني‏}‏ عن الشكر فلا ينفعه شكر العباد ‏{‏حميد‏}‏ في نفسه فلا يضره كفر الكافرين و‏{‏حميد‏}‏ بمعنى محمود أي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته، وقوله ‏{‏وإذ قال‏}‏ يحتمل أن يكون التقدير واذكر إذ قال، ويحتمل أن يكون التقدير «وآتيناه الحكمة إذ قال» واختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه واسم ابنه ثاران، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يا بنيِّ» بالشد والكسر في الياء في الثلاثة على إدغام إحدى الياءين في الأخرى، وقرأ حفص والمفضل عن عاصم «يا بنيَّ» بالشد والفتح في الثلاثة على قولك يا بنيا ويا غلاما، وقرأ ابن أبي برة عن ابن كثير «يا بنيْ» بسكون الياء، و‏{‏يا بني إنها‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ بالكسر، و‏{‏يا بنيَّ أقم الصلاة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏ بفتح الياء، وروى عنه قنبل بالسكون في الأولى والثالثة وبكسر الوسطى وظاهر قوله ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ أنه من كلام لقمان، ويحتمل أن يكون خبراً من الله تعالى منقطعاً من كلام لقمان متصلاً به في تأكيد المعنى، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت ‏{‏ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم، فأنزل الله تعالى ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ فسكن إشفاقهم‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون ذلك خبراً من الله تعالى، وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يُضعِّفُ أن تكون مما قالها لقمان، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار وقال أيضاً لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه، وهذه الآية شرك الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة ذكر الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر‏؟‏ «قال‏:‏ أمك‏.‏ قال ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ثم أمك‏.‏ قال ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ثم أمك‏.‏ قال ثم من‏؟‏ قال ثم أباك» فجعل له الربع من المبرة كالآية‏.‏ ‏{‏وهناً على وهن‏}‏ معناه ضعفاً على ضعف، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولاد بعده، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره، وقرأ عيسى الثقفي «وهَناً على وهَن» بفتح الهاء، ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد، وقرأ جمهور الناس «وفصاله»، وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله»، وأشار ب «الفصال» إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه بغايته، والناس مجموع على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين لا زيادة ولا نقص، وقالت فرقة العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم، وقالت فرقة إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اشكر‏}‏ يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر»، ويحتمل أن تكون مفسرة، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى‏.‏ ومن دعا لوالديه في دبر الصلوات فقد شكرهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إليّ المصير‏}‏ توعد أثناء الوصية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جاهداك‏}‏ الآية روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أن أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية لما أسلم حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يفارق دنيه ويرجع إلى دين قومه فلج سعد في الإسلام، وكانت هي إذا أفرط عليه الجوع والعطش شحوا فاها، ويروى شجروا فاها، أي فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها، فلما طال ذلك ورأت أن سعداً لا يرجع أكلت، ففي هذه القصة نزلت الآيات، قاله سعد بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ فمطلب الآية الأولى الأمر ببر الوالدين وتعظيمه، ثم حكم بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي، وجملة هذا الباب أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن أقوى من الندب لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة، فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا الفصل فقال إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها، وقوله ‏{‏وصاحبهما في الدنيا معروفاً‏}‏ يعني الأبوين الكافرين أي صلهما بالمال وادعهما برفق، ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها، وقيل أمها من الرضاعة، فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها‏؟‏ قال نعم‏.‏ وراغبة قيل معناه عن الإسلام‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد عزى بن عبد أسعد وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع سبيل من أناب إليّ‏}‏، وصية لجميع العالم كأن المأمور الإنسان، و‏{‏أناب‏}‏ معناه، مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين، وحكى النقاش أن المأمور سعد والذي أناب أبو بكر، وقال‏:‏ إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا آمنت‏؟‏ قال نعم، فنزلت فيه ‏{‏أمن هو قانت آناء الليل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ فلما سمعها الستة آمنوا فأنزل الله تعالى فيهم ‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 17‏]‏ إلى قوله ‏{‏أولئك الذي هداهم الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ثم توعد عز وجل بالبعث من القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

المعنى وقال لقمان ‏{‏يا بني‏}‏، وهذا القول من لقمان إنما قصد إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن «الخردلة» يقال إن الحس لا يقدر لها ثقلاً إذ لا ترجح ميزاناً، وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بها علماً‏.‏ وقوله ‏{‏مثقال حبة‏}‏ عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة، وتصلح للأعمال أي ما تزنه على جهة المماثلة قدر حبة، وظاهر الآية أنه أراد شيئاً من الأشياء خفياً قدر حبة، ويؤيد ذلك ما روي من أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في مقل البحر يعلمها الله، فراجعه لقمان بهذه الآية‏.‏ وذكر كثير من المفسرين أنه أراد الأعمال المعاصي والطاعات، ويؤيد ذلك قوله ‏{‏يأت بها الله‏}‏ أي لا تفوت، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف منضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى، وفي القول الآخر ليس ترجية ولا تخويف‏.‏ ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر قراءة عبد الكريم الجزري «فتكِنّ» بكسر الكاف وشد النون من الكن الذي هو الشيء المغطى، وقرأ جمهور القراء «إن تك» بالتاء من فوق «مثقالَ» بالنصب على خبر «كان» واسمها مضمر تقديره مسألتك على ما روي، أو المعصية أو الطاعة على القول الثاني‏.‏ ولهذا المقدر هو الضمير في ‏{‏إنها‏}‏‏.‏ وقرأ نافع وحده بالتاء أيضاً «مثقالُ» بالرفع على اسم «كان» وهي التامة‏.‏ وأسند إلى المثقال فعلاً فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه وهذا كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليَها مرُّ الرياح النواسم

وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر‏.‏ وقوله ‏{‏فتكن في صخرة‏}‏، قيل أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء وهي على ظهر ملك وقيل هي صخرة في الريح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله ضعيف لا يثبته سند، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم، أي أن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وفي الأرض‏.‏ وقرأ قتادة «فتكِن» بكسر الكاف والتخفيف من كن يكن، وتقدمت قراءه عبد الكريم «فتكِنّ»‏.‏ وقوله ‏{‏يأت بها الله‏}‏ إن أراد الجواهر فالمعنى ‏{‏يأت بها‏}‏ إن احتيج إلى ذلك أو كانت رزقاً ونحو هذا، وإن أراد الأعمال فمعناه ‏{‏يأت‏}‏ بذكرها وحفظها فيجازي عليها بثواب أو عقاب‏.‏ و‏{‏لطيف خبير‏}‏ صفتان لائقتان بإظاهر غرائب القدرة، ثم وصى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع، وقوله ‏{‏واصبر على ما أصابك‏}‏ يقتضي حضاً على تغيير المنكر وإن نال ضرراً فهو إشعار بأن المغير يؤذي أحياناً، وهذا القدر هو على جهة الندب والقوة في ذات الله، وأما على اللزوم فلا‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏إن ذلك من عزم الأمور‏}‏ يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به، قاله ابن جريج، ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزم أهل الحزم والسالكين طريق النجاة، والأول أصوب، وبكليهما قالت طائفة‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن «ولا تصاعر»، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد وأبو جعفر «ولا تصعر»، وقرأ الجحدري «ولا تصْعر» بسكون الصاد والمعنى متقارب، و«الصعر» الميل ومنه قول الأعرابي‏:‏ «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره»، ومنه قول عمرو بن حنى التغلبي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وكنا إذا الجبار صعر خده *** أقمنا له من ميله فتقوم

أي فتقوم أنت، قاله أبو عبيدة، وأنشد الطبري «فتقوما» وهو خطأ لأن قافية الشعر مخفوضة، وفي بيت آخر أقمنا له من خده المتصعر‏.‏ فمعنى الآية ولا تمل ‏{‏خدك للناس‏}‏ كبراً عليهم ونخوة وإعجاباً واحتقاراً لهم وهذا هو تأويل ابن عباس وجماعة، ويحتمل أن يريد أيضاً الضد، أي ‏{‏ولا تصاعر خدك‏}‏ سؤالاً ولا ضراعة بالفقر، والأول أظهر بدلالة ذكر الاختيال والفخر بعد، وقال مجاهد «ولا تصعر» أراد به الإعراض هجرة بسبب إحنة، والمرح النشاط، والمشي مرحاً هو في غير شغل ولغير حاجة، وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء، فالمرح مختال في مشيه وقد قال عليه السلام «من جَرَّ ثَوْبَهُ خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، وقال‏:‏ «بينما رجل من بني إسرائيل يجر ثوبه خيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»، وقال مجاهد «الفخور» هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تعالى‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وفي الآية الفخر بالنسب وغير ذلك، ولما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله من القصد في المشي وهو أن لا يتخرق في إسراع ولا يواني في إبطاء وتضاؤل على نحو ما قال القائل‏:‏ ‏[‏مجزوء الرمل‏]‏

كلنا نمشي رويد *** كلنا يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد *** وأن لا يمشي مختالاً متبختراً ونحو هذا مما ليس في قصد، و«غض الصوت» أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه، ثم عارض ممثلاً بصوت الحمير على جهة التشبيه، أي تلك هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات، فكذلك كل ما بعد عن الغض من أصوات البشر فهو في طريق تلك وفي الحديث

«إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً»، وقال سفيان الثوري‏:‏ صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير، وقال عطاء‏:‏ صياح الحمير دعاء على الظلمة، و‏{‏أنكر‏}‏ معناه أقبح وأخشن، و‏{‏أنكر‏}‏ عبارة تجمع المذام اللاحقة للصوت الجهير، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت الجهير على خلق الجاهلية ومنه قول الشاعر يمدح آخر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

جهير الكلام جهير العطاس *** جهير الرواء جهير النعم

ويعدو على الأين عدو الظليم *** ويعلو الرجال بخلق عمم

فنهى الله تعالى عن هذه الخلق الجاهلية، وقوله ‏{‏لصوت الحمير‏}‏ أراد ب «الصوت» اسم الجنس، ولذلك جاء مفرداً، وقرأ ابن أبي عبلة «أنكر الأصوات أصوات الحمير» بالجمع في الثاني دون لام، والغض رد طمحان الشيء كالنظر وزمام الناقة والصوت وغير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك، وقرأ يحيى بن عمارة وابن عباس «وأصبغ» بالصاد على بدلها من السين لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صاداً، والجمهور قراءتهم بالسين، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وابن نصاح وغيرهم «نعمَه» جمع نعمة كسدرة وسدر بفتح الدال، و«الظاهرة» هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك، و«الباطنة» المعتقدات من الإيمان ونحوه والعقل‏.‏

قال ابن عباس «الظاهر» الإسلام وحسن الخلقة، و«الباطنة» ما يستر من سيئ العمل، وفي الحديث قيل يا رسول الله قد عرفنا الظاهرة فما الباطنة‏؟‏ قال‏:‏ ستر ما لو رآك الناس عليه لقتلوك‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ومن «الباطنة» التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة، ومن «الظاهرة» عمل الجوارح بالطاعة‏.‏ قال المحاسبي رحمه الله «الظاهرة» تعم الدنيا و«الباطنة» تعم العقبى، وقرأ جمهور الناس «نعمة» على الإفراد، فقال مجاهد المراد لا إله إلا الله، وقال ابن عباس أراد الإسلام، والظاهر عندي أنه اسم جنس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34، النحل‏:‏ 18‏]‏، ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏، وقال النقاش‏:‏ الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية، فذلك جدالهم، و‏{‏بغير علم‏}‏ أي لم يعلمهم من يقبل قوله ولا عندهم هدى قلب ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ولا يتبعون بذلك كتاباً بأمر الله يقر بأنه وحي، بل ذلك دعوى منهم وتخرص، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة فسلكوا طريق الآباء، ثم وقف الله تعالى وهم المراد بالتوفيق على اتباعهم دين آبائهم أيكون وهم بحال من يصير ‏{‏إلى عذاب السعير‏}‏ فكان القائل منهم يقول هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف كما كان اتساق الكلام فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حال الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل، وقرأت عامة القراء «يسْلم» بسكون السين وتخفيف اللام‏.‏

وقرأ عبد الله بن مسلم وأبو عبد الرحمن «يسَلّم» بفتح السين وشد اللام ومعناه يخلص ويوجه ويستسلم به، و«الوجه» هنا الجارحة استعير للمقصود لأن القاصد للشيء فهو مستقبله بوجهه فاستعير ذلك للمقاص، و«المحسن» الذي جمع القول والعمل، وهو الذي شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان، و‏{‏العروة الوثقى‏}‏ استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال والعرى موضع التعليق فكأن المؤمن متعلق بأمر الله فشبه ذلك ‏{‏بالعروة‏}‏، و‏{‏الأمور‏}‏ جمع أمر وليس بالمضاد للنهي، ثم سلى عز وجل نبيه عن موجدته لكفر قومه وإعراضهم فأمره لا يحزن لذلك بل يعمد لما كفله من التبليغ ويرجع الكل إلى الله تعالى، وقرأ ت فرقة «يُحزنك» من الرباعي، وقرأت فرقة «يَحزنك» من الثلاثي، و«ذات الصدور» ما فيها والقصد من ذلك إلى المعتقدات والآراء، ومن ذلك قولهم «الذئب مغبوط بذي بطنه»، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه «ذو بطن بنت خارجة»، والمتاع القليل هو العمر في الدنيا، و«العذاب الغليظ» معناه المغلظ المؤلم، ثم أقام عليه الحجة في أمر الأصنام بأنهم يقرون بأن الله تعالى خالق المخلوقات ويدعون مع ذلك إلهاً غيره، والمعنى ‏{‏قل الحمد لله‏}‏ على ظهور الحجة عليكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ إضراب عن مقدر تقديره ليس دعواهم بحق ونحو هذا، وقوله ‏{‏أكثرهم‏}‏ على أصله لأن منهم من شذ فعلهم كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس، وورقة بن نوفل، ويحتمل أن تكون الإشارة أيضاً إلى من هو معد أن يسلم، ثم أخبر على جهة الحكم وفصل القضية بأن الله له ملك السماوات والأرض وما فيها، أي وأقوال هؤلاء لا معنى لها ولا حقيقة و‏{‏الغني‏}‏ الذي لا حاجة به في وجوده وكماله إلى شيء ولا نقص بجهة من الجهات، و‏{‏الحميد‏}‏ المحمود أي كذلك هو بذاته وصفاته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

روي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله تعالى وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «التوراة قليل من كثير» ونزلت هذه الآية، وهذا هو القول الصحيح، والآية مدنية وقال قوم‏:‏ سبب الآية أن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينجسر فنزلت هذه الآية، وقال السدي‏:‏ قالت قريش ما أكثر كلام محمد فنزلت‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، وأيضاً فإن الآية إنما تضمنت أن ‏{‏كلمات الله‏}‏ لم تكن لتنفد، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه «الأقلام» والبحور، قال أبو علي‏:‏ المراد ب «الكلمات» والله أعلم ما في المقدور دون ما أخرج منه إلى الوجود، وذهبت فرقة إلى أن «الكلمات» هنا إشارة إلى المعلومات‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا قول ينحو إلى الاعتزال من حيث يرون في الكلام أنه مخلوق وهذه الآية بحر نظر، نور الله تعالى قلوبنا بهداه، وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة وابن أبي إسحاق وعيسى «والبحرَ» بالنصب عطفاً على «ما» التي هي اسم «أن»، وقرأ جمهور الناس و«البحرُ» بالرفع على أنه ابتداء وخبره في الجملة التي بعده لأن تقديرها هذه، حاله كذا، قدرها سيبويه وقال بعض النحويين هو عطف على «أن» لأنها في موضع رفع بالابتداء، وقرأ جمهور الناس «يَمده» من مد وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يُمده» من أمد، وقالت فرقة هما بمعنى واحد، وقالت فرقة مد الشيء بعضه بعضاً وأمد الشيء ما ليس منه، فكأن «الأبحر السبعة» المتوهمة ليست من ‏{‏البحر‏}‏ الموجود، وقرأ جعفر بن محمد «والبحر مداده» وهو مصدر، وقرأ ابن مسعود «وبحر يمده»، وقرأ الحسن «ما نفد كلام الله»، ثم ذكر تعالى أمر الخلق والبعث أنه في الجميع وفي شخص واحد بالسواء لأنه كله بكن فيكون قاله مجاهد‏.‏

وحكى النقاش أن هذه الآية في أبي بن خلف وأبي الأسود ونبيه ومنبه ابني الحجاج وذلك أنهم قالوا يا محمد إنا نرى الطفل يخلق بتدرج وأنت تقول الله يعيدنا دفعة واحدة فنزلت الآية بسببهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

هذا تنبيه خوطب به محمد صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع العالم، وهذه عبرة تدل على الخالق المخترع أن يكون الليل بتدرج والنهار كذلك فما قصر من أحدهما زاد في الآخر ثم بالعكس ينقسم بحكمة بارئ العالم لا رب غيره، و‏{‏يولج‏}‏ معناه يدخل، و«الأجل المسمى» القيامة التي تنتقض فيها هذه البنية وتكور الشمس، وقرأ جمهور القراء «بما تعملون» بالتاء من فوق، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يعلمون» بالياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏}‏ الإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى هذه العبرة وما جرى مجراها، ومعنى ‏{‏هو الحق‏}‏ أي صفة الألوهية له حق، فيحسن في القول تقدير ذو، وذلك الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر منه قول الشاعر‏:‏

فإنما هي إقبال وإدبار *** وهذا كثير ومتى قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق، وقوله ‏{‏وأن ما تدعون من دونه‏}‏ يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها ب ‏{‏الباطل‏}‏ على نحو ما قدمناه في ‏{‏الحق‏}‏، ويصح أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به، وقرأ الجمهور «تدعون» بالتاء من فوق، وقرأ «يدعون» بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

الرؤية في قوله ‏{‏ألم تر‏}‏ رؤية العين يتركب عليها النظر والاعتبار، والمخاطب محمد صلى الله عليه وسلم والمراد الناس أجمع، و‏{‏الفلك‏}‏ جمع وواحد بلفظ واحد، وقرأ موسى بن الزبير «الفلُك» بضم اللام، وقوله ‏{‏بنعمة الله‏}‏ يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات، فالباء للأرزاق، ويحتمل أن يريد الريح وتسخير الله البحر ونحو هذا، فالباء باء السبب، وقرأ الجمهور «بنعمة»، وقرأ الأعرج ويحيى بن يعمر «بنعمات» على الجمع، وقرأ ابن أبي عبلة «بنَعِمات» بفتح النون وكسر العين، وذكر تعالى من صفة المؤمن «الصبار» و«الشكور» لأنهما عظم أخلاقه الصبر على الطاعات وعلى النوائب وعلى الشهوات، والشكر على الضراء والسراء، وقال الشعبي الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه الآخر، واليقين الإيمان كله‏.‏ و«غشي» غطى، أو قارب، و«الظلل» السحاب، وقرأ محمد بن الحنفية «الظلال» ومنه قول النابغة الجعدي يصف البحر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

يماشيهن أخضر ذو ظلال *** على حافاته فلق الدنان

ووصف تعالى في هذه الآية حالة البشر الذين لا يعتبرون حق العبرة، والقصد بالآية تبيين آية تشهد العقول بأن الأوثان والأصنام لا شرك لها فيه ولا مدخل وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم مقتصد‏}‏ قال الحسن منهم مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يريد ‏{‏فمنهم مقتصد‏}‏ على كفره أي منهم من يسلم الله ويفهم نحو هذا من القدرة وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها بسيرته ونشأته، والختّار القبيح الغدر وذلك أن نعم الله تعالى على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها فمن كفر ذلك وجحد به فكأنه ختر وخان، ومن «الختر» قول عمرو بن معدي كرب‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدر وختر

وقال الحسن‏:‏ «الختار» هو الغدار، و‏{‏كفور‏}‏ بناء مبالغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏يجزي‏}‏ معناه يقضي، والمعى لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه، و‏{‏هو جاز‏}‏ جملة في موضع الصفة، أي ولا يجزي مولود قد كان في الدنيا يجزي، و‏{‏الغرور‏}‏ التطميع بما لا يتحصل، و‏{‏الغرور‏}‏ الشيطان، بذلك فسر مجاهد والضحاك وقال هو الأمل والتسويف، وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة «الغُرور» بضم العين، وقال سعيد بن جبير‏:‏ معنى الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، وقرأ الجمهور «يَجزي» بفتح الياء من جزا، وقرأ عكرمة «يُجزي» بضم الياء على ما لم يسم فاعله، وحكى ابن مجاهد قراءة «لا يُجزئ» بضم الياء والهمز وفي رفع «مولودٌ» اضطراب من النحاة قال المهدوي‏:‏ ولا يكون مبتدأ لأنه نكرة وما بعده صفة له فيبقى بغير خبر‏.‏

وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب «ولا يغرنكم» خفيفة النون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث‏}‏ ذكرالنقاش أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الخمس وروي أنه سأل عن بعضها عن جنين وعما يكسب ونحو هذا فنزلت الآية حاصرة لمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ولن تجد من المغيبات شيئاً إلا هذه أو ما يعيده النظر، والتأويل إليها، و‏{‏علم الساعة‏}‏ مصدر مضاف إلى المفعول، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه، وكذلك نزول الغيث أمر قد استأثر الله تعالى بتفصيله وعلم وقته الخاص به، وأمر الأجنة كذلك، وأفعال البشر وجميع كسبهم كذلك وموضع موت كل بشر كذلك إلا الأصقاع والموضع الخاص بالجسد، وقرأ ابن أبي عبلة «بأيَّة أرض» فتح الياء وزيادة تاء تأنيث، و‏{‏عليم خبير‏}‏ صفتان متشابهتان لمعنى الآية، وقال ابن مسعود‏:‏ كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية، وقرأ «وينزِل» خفيفة أهل الكوفة وأبو عمرو وعيسى، وقرأ «وينزِّل» بالتثقيل نافع وأبو جعفر وعاصم وشيبة، وذكر أبو حاتم في ترجيح التثقيل رؤيا ‏(‏انتهى‏)‏‏.‏